لأننا نُعَايش هذا الانفجار الهائل لعالَم تقنية المعلومات والاتصالات والمواصلات، والذي بدأ يتسرَّب إلى أشد الأماكن إحكامًا، وإلى أكثرها انغلاقًا، فنوافذ العالم مفتوحة بعضها على بعض بلا أبواب - كان هذا الواقع يدعو إلى التعاطي معه كمصطلح، وكفكرة، وكمشروع عمل.
وسأناقش فكرةَ الانفتاح، أُبدي فيها رؤيتي للعاملين في حقل الإصلاح بشكل عام، داعيًا للانفتاح كفكرة، والانفتاح كمصطلح لا بدَّ أن يُضبط، ويعاد صياغته، وتفريغه من المعاني الرديئة؛ لأنه مصطلح معبَّأ محشُوٌّ، يفهمه البعض بشكل لا يفهمه البعض الآخر.
الانفتاح ليس الانبطاحَ كما يفهمه بعضهم، وهو عملية تحوُّلٍ تحتاج إلى القيام بخطوات تحضيرية - فكرية وعملية وتربوية وثقافية - تُوَاكب هذا التحوُّل.
بعض الشباب الذي يطالب بالانفتاح يَعترف بأن ثَّمَة اعوجاجًا ما في واقعهم، الذي يتطلب التقويم والتثقيف؛ حتى تتكاملَ تصوراتُه الفكرية، ويَتوازَنَ بناؤُه النفسيُّ؛ ليتأهل - مِن ثَم - لمهمة خوض المعترك الإصلاحي الذي يترشح له.
والانفتاح يشكل جزءًا جوهريًّا لإجابة البعض على تساؤل: (ما دَوْري؟) الذي يتكرَّر وُرُوده كلما دار الحديث عن أداء البعض حيال القضايا المصيرية للإصلاح، ثم يأتي تحميلُهم المسؤولية، مع إغفال حقيقة أنه هو الآخر – أي: البعض - ضحيةٌ لأُطْروحاتٍ ورؤًى، جانَبَها الصوابُ حين حاولَتْ تشكيلَ المفاهيم، التي يتم بها التعاملُ مع البيئة المحيطة بمعزل عن عامل الواقع الحي المتحرك، مفضِّلةً اجترار صيغ وتقريرات، صَلحَتْ في زمن وواقع انقضيا، لكنها لا تصلح الآن.
وإن كان الانفتاح يعني الخروج عن المألوف، والتخلي طواعيةً عن دفء المحضن، وخسارة حنان الإخاء في بعض الأحيان.
يبعث هذا الشعور بما نسمعه عن بعضهم من تساؤلات يثيرها مطلب الانفتاح.
لماذا الانفتاح الآن؟
وعلى مَن ننفتِحُ؟ على المخالِف؟ على المجتمع بكل شرائحه؟
وكيف نجعل الآخر ينفتح علينا أو يَقبل انفتاحنا؟
وفي حالة التحول الحاد القاسي السريع، الذي يعصف بنا ومن حولنا، والذي يجعل الخيار في غاية الصعوبة؛ إمَّا القبول بالخطو نحو الخارج بعيون مفتوحة، أو التعرض للاجتياح بكل ما يعنيه من مفهوم؛ من الاعتداء أو الخضوع لموقف الآخر، الذي يقوم على طرح مصادم، أو على الأقل الانشغال به عما كان عليه.
الانفتاح خط تاريخي صاعد، وليس جديدًا يحتاج إلى مبرِّرات، وإن أصبح اليومَ أسرَعَ إلى درجة المفاجأة، لكنه قديمٌ قِدَمَ الزمن.
الحاجة للانفتاح تكمن في:
كونه تحصينًا داخليًّا للشباب قبل دخول معمة الحياة.
كونِه وسيلةَ تبليغٍ للآخر بالحق.
هذا على العموم، وهناك تفاصيل أخرى كثيرة، مثل: التهيئة النفسية، والحصانة الفكرية، ومعرفة لغة الآخر وفكره، وثقافته ووسائله، وغيرها كثير.
إذا كان الرعيل السابق مِن الدعاة الذي قد خاض مُعتَرَك التجديد، وقاد الموكب في مرحلة إعادة تشكيل الهوية، وإعادة بناء الشخصية الإسلامية - قد عُنِي بقضية تصحيح المفاهيم، وضبط وتحديد معالم هذه الشخصية وخصوصيتها، فإن المستجدات التي تطرحها الحياة تدفع للخطو نحو الخارج؛ بغية الانطلاق والاطلاع على ما يعرضه الآخرون، انطلاقًا من بنيان ذي قواعد راسخة، وقناعات ثابتة، لا يزلزلها هبوب رياح التشكيك.
وفي هذا السياق يأتي مطلب الانفتاح محاوَلةً لتسويق رؤية في العمل الإصلاحي، وتطلُّعًا إلى التخفف من ربقة القعود بدعوى الحفاظ على (الأصالة).
وكون البعض قد تربى على قاعدة الاحتكارية المطلقة، قد يجعله يأبى الإسراع نحو الانفتاح الذي ينظر إليه نظر ريبة.
وهنا تكون الخطوةُ التمهيدية ضبْطَ مصطلح الانفتاح بظلاله، وشرح أبعاده، وتحديد دوائره، وتبيان مراميه ومضامينه؛ لإيجاد جَوٍّ من دواعي الوثوق والتفاعل الإيجابي المنتهي إلى عمل واعٍ، مؤسَّسٍ على اختيار واثق؛ وبذلك لا يفلت منا هذا المصطلح، ونحميه من التشويه أو الاهتمام، فالباعث على الوثوق ضبْطُ مصطلح الانفتاح أوَّلاً.
لأن التحاكم إلى مصطلحٍ مطَّاطي، وعلى أنه وافد - يَعني رفع شعارٍ خطير تعتريه الآفات، وبذلك تختفي النظرة الثنائية؛ إما الانفتاح أو الانغلاق، باعتبارهما خيارين، أحلاهما مُرٌّ.
ومتى ضُبِط المصطلح داخل القالب الفكري؛ للتخلص من الشوائب، والحيلولة من الذوبان في الصف المقابل، أو ترديد لمصطلحاتٍ معبَّأةٍ، أو الإنصات لكل ناعق، أو الاحتفاء بكل وافد - كانت بمنْزلة تدشين مرحلة الانفتاح على أسسٍ تستطيع الصمودَ، وتحمُّلَ ما سيُبنى عليها.
وحتى يتم الانفتاح:
♦ تشكيل أرضيةِ تنشئةٍ للشباب المسلم، تُسَلِّحه بما يكفي، تعطيه قدْرًا من الثقة؛ للتحرك تجاه الآخرين، والتعامل مع ما يحمله هؤلاء الآخرون من مفاهيم وأفكار - بمبدأ الندِّيَّة - حتى يقرأ رسالة الانفتاح قراءةً صحيحةً، فيصبح الانفتاحُ مصدرًا للانجذاب لمن يملك القدرة والكفاية لا التباطؤ.
♦ الانفتاح عنصر من إستراتيجية العمل، ليس مقترحًا معزولاً، أو محاولةً مِن البعض التي هي عبارة عن محاولةِ تنفيسٍ يائسة عن الاحتقان والعزلة، والتبعية التي تضغط على الواقع الداخلي للعمل أو المشروع، بفعل التراكمات الفكرية، أو التصورات المجنحة التي تعجز عن ملامسة الواقع، أو تتعامل مع حركة الحياة والأحياء وتحولاتهم.
♦ خلق التفكير المميز الذاتي الإبداعي في عقول الشباب.
♦ فهم الواقع المحيط.
♦ ترك التعميم في الأحكام على المناهج والأفكار والأشخاص والمؤسسات، حتى الخروج إليها والتعامل معها.
♦ فك الضغط النفسي من الشخصيات المؤثرة التي تحجز وتخوف، وتثبط من خطوة الانفتاح بنظرية التورع الحاد، أو تحاول تضييق الاتجاه في مسار ضيق يصعب التحرك فيه؛ لكثرة الشروط والموانع.
♦ الانفتاح حق الجميع، فلا بد من تأهيل الجميع له؛ لأنه يمسهم جميعًا، لكن يهتم بنوعية تأهل للمهام الصعبة والأكثر عمقًا، وإذا كان الآخَرُ يريد أن يُقَوْلِبَنا مِن خلال فَرْضِ خلفيات فكرية واجتماعية، تحد من حركة الانفتاح، وتأطر أشكاله؛ مما يكون اصطدامًا مع الجو الخارجي، الذي وضعك داخل دوائر، يحظر على الإصلاحيين الخروج منها، أو الدخول في دوائر خصصها الآخر له، ونتيجة لهذا الوضع؛ ترتسم عقبةٌ أخرى مُعَاكِسة، تهدف إلى الحيلولة دون الوصول إلى الآخر بشكل جيد.
♦ عدم الثقة بالنفس، أو عَمْلَقة الآخر بشكل يستحيل مقارعته؛ بما يملك مِن إمكانيات مُلَوثَّة لا بد أن تُوأَد.
♦ لا بدَّ أن نتخلى عن الخطاب المنغلق، ونشارك الناسَ همومَهم، ونحل مشاكلهم برؤيتنا الخاصة، والنُّزول إلى الميدان، وتجربة المشروع، وتدريب العاملين عليه، وإقناع الناس بالمشروع بكل أمانة واقتدار، وأنه مشروع متكامل لا يقبل التجزئة.
وإن كان القرآن - بجلاء - يدعو إلى الحوار والجدال مع الآخر؛ فإن نظرة البعض أن الآخر نقيضٌ، ويضخِّم المفهوم العقدي الولاء والبراء - حمايةٌ وقائيةٌ للنشْءِ؛ فلا بد مِن أن تقف الفكرة على حدود الولاء والبراء المتفاوِتِ بُعْدًا وقربًا لا أكثر.
♦ لا بد أن نتخلى عن شعار الاستفراد، ونرفع شعار الشراكة للمجتمع، ولا نكون أوصياءَ عليه، أو مُنَظِّرين فقط